عندما عاقبني صاحب الجلالة

عندما عاقبني صاحب الجلالة

- ‎فيرأي
262
6

ابراهيم الفتاحي

اشترى والدي شاة “رباعية” لذبحها في عيد الأضحى، و كنا ننتظر ذلك اليوم بشوق كبير كعادة الأطفال دائما، لكن جلالة الملك خطب في شعبه الوفي، معلنا عن إلغاء الذبح تلك السنة، نظرا لما تمر به البلاد من ظروف اقتصادية صعبة وتوالي سنوات الجفاف، وبصفته أميرا للمؤمنين فإنه سيذبح كعادته كبشين أقرنين أملحين، الأول عنه و عن أسرته الكريمة، و الثاني عن أمته، سيرا على هدي السنة النبوية الشريفة.
و امتثالا للأمر الملكي، لم يذبح والدي الشاة، و بقيت ضمن نعاجنا، ولكن حبل الود بيني وبينها انقطع منذ أول يوم، فقد كانت نطاحة صعبة المزاج، لا تتردد في مهاجمتي، و كنت أنتظر يوم ذبحها بفارغ الصبر حتى أشفي غليلي و أنا أنظر إلى أمي تشوي رأسها اللعين و تنظف أمعاءها و رئتها لتصنع منها “الكرداس” و القديد، و أنظر إلى أبي و إخوتي وهم يهيئون الكباب من كبدها و طحالها، كما كنت سأسعد طويلا وأنا ألعب بقرنيها الصغيرتين الصلبتين اللتين كانت تعتد بهما و تهيئهما للنطح رجوعا خطوات إلى الوراء كلما لمحتني أقترب منها. جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، و نجت الشاة من الذبح لتنطلق فصول من العذاب و النطح و فر وكر لبضع سنوات من طفولتي، سنوات عانيت منها إرهاب تلك الشاة، التي صارت نعجة بعدما أنجبت خروفا، و يا لسوء حظي!!! فالنعجة لم تذبح أبدا، لأن ولدها عوضها في العام المقبل، بل صارت هي وبناتها منجبات خرفان الأضحى لسنوات عديدة، خصوصا و أنها من النوع الجيد، و أنجبت خرفانا كثرا وخروفات كثيرة، نبيع منها و نضحي كل عام.
مات أبي وعاشت النعجة من بعده مدة طويلة، و كنت ملزما برعيها، لكنها كثيرا ما كانت تطاردني في المرعي، وتترك تقرحات في جسدي النحيل من حين لآخر بفعل نطحها، ويتضاعف عذابي لأنها كانت تعلم أولادها أيضا نطحي و الجرأة علي، وكان جحيمي هو المرعى، أحمل في قلبي الصغير جبالا من الهم والخوف بسببها، ولا أحد يعير للأمر اهتماما من أسرتي، وكنت أكتوي بالعذاب وحدي خصوصا وأن الرعي واجب لا مناص منه، وآخرون كانوا يستمتعون بمشاهد العذاب، وعلى رأسهم ابن عمتي عمر رحمه الله، فقد كان يكبرني بثماني سنوات تقريبا، وكان يتكلف برعي أغنامهم، فكان رحمه الله يعمد إلى طرد تلك النعجة خارج القطيع، و كلما هممت أنا لاسترجاعها، خوفا من ضياعها، طاردتني في المرعى، تنال مني حينا و أفلت أحيانا، بينما كان ابن عمتي يقف متفرجا يغني و يضحك و يقهقه من إرهاب نعجتنا ضد طفل صغير نحيف، غير آبه بعذابي وخوفي، و يتركني في حالي ذاك للحظات طويلة، ثم يمتد حبل الشفقة إلى قلبه فيعيدها إلى القطيع، كان يفعل ذلك فقط ليضحك، و لكنه لم يتخل عني يوما، فقد كان يحميني من جبروت الأطفال الآخرين و من رعاة الدواوير الأخرى الذين كانوا يلتقون بالعشرات في المرعى، هناك حيث البراءة تمتزج بالقسوة والصراعات التي لا تنتهي، فعالم الأطفال غاية في القسوة، ولابد لك من الحماية؛ وكان ابن عمتي مريضا بالصرع مجنونا، يهابه الجميع كبارا وصغارا، ولا يتجرأ عليه أحد، لذلك فقد كان خير حام لنا جميعا في المرعى، خصوصا أنا ابن خاله، ورفيق طفولتي ابن أخته حسن.
مازالت صورة عمر أمام عيني، رغم أنه مضى على وفاته ما يزيد عن عقد من الزمن، فقد كان يحبني كثيرا، وبقي متعلقا بي حينما كبرت، كثيرا ما كنت أجده على مشارف الدوار حينما أعود من المدرسة أو الجامعة، ليرافقني حتى البيت، وهو ينثال علي بأسئلته الوجودية الكثيرة التي كنت أجيب عنها، ومن بينها أنه يسألني قائلا:
– ماذا لو كنت فلانا وكان فلان أنا؟
– ماذا لو كنت كلبا وكان الكلب أنا؟
وكنت أجيب عن أسئلته الكثيرة، فقد كان المسكين يحمل الهموم نفسها التي حملها الفلاسفة مثل ديكارت وكيركجار وسارتر…
لقد مات بمرض الصرع وهو شاب، وحينما كانت نوبات الصرع تشد عليه في السنوات الأخيرة من عمره، كان يطلبني بإلحاح لأقرأ عليه القرآن، وكان يصر علي أنا بالذات، وكذلك فعلت كثيرا، وفي اللحظات الأخيرة من عمره، كنت أرتل عند رأسه القرآن حتى أسلم المسكين الروح لبارئها. لقد مات عمر بالصرع وهو المرض نفسه الذي مات به والدي، وكانت أيامهما الأخيرة متشابهتين، ارتعدا صرعا حتى ماتا، فشيع الناس عمر، الفتى الودود الذي أحبه الجميع، المجنون قليل العقل، ولكنني أنا شيعت فيلسوفا عظيما، شيعت من حماني طويلا من جبروت النعجة والأطفال…
كلما تذكرت إرهاب نعجتنا وبعض أبنائها في خلوتي تذكرت عمر ابن عمتي، فيمتزج الدمع بالإبتسامة في عيني، أستحضر أسئلته وأعيد طرحها على الفلاسفة، فيعجزون عن الإجابة، ووحده فرانز كافكا يجيب عنها برواته La métamorphose، وأجد في شخصية Gregore Samsa ابن عمتي الفقيد. وينتابني الإحساس أن قرار صاحب الجلالة بإلغاء ذبح الأضاحي في ذلك العام، كان عقابا لي أنا، حيث خلف النعجة الإرهابية لتعذبني وتطاردني من حين لآخر في المرعى، أجل لقد ألغى الأضحية وكنت الضحية، هناك في مكان قصي بعيد عن قصر جلالته وعن مؤسسات الدولة، كان طفل يعاني من القرار الملكي السامي، ولم يعرف حقيقة خوفه وعذابه أحد حتى والديه وإخوته، فقد كان القهر متعددا: قهر النعجة التي كانت نطحاتها تؤلمني، وقهر الخوف الدائم من النعجة، وسخرية الأطفال وبعض الكبار مني حين تطاردني، وعدم اهتمام أهلي بالموضوع رغم شكواي من حين لآخر، إذ كانوا يستصغرونه وأستعظمه، ويزنونه بأعمارهم وقدراتهم لا بعمري أنا وقدراتي.
حينما شرع المغرب في التحول، واتخذ القرار على مصالحة الماضي، وشكل الملك هيئة الإنصاف والمصالحة، فكرت من حين لآخر أن أتقدم بطلب جبر الضرر إلى الهيئة، وأطالب بتعويض عن العذاب الذي عشته بسبب إلغاء الذبح في ذلك العام، فإرهاب نعجتنا نتيجة قرار اتخذه أول مسئول في الدولة، وأعلى مؤسسة فيها وهي المؤسسة الملكية. فقد عاقبني جلالة المغفور له الحسن الثاني دون أن يدري.

Facebook Comments

يمكنك ايضا ان تقرأ

واش فراس الوالي شوراق.. مقهى تبتلع الملك العام بسويقة باب دكالة و السلطات فدار غفلون

لا حديث بين سكان باب دكالة و زوارها،